بعدما عبر نبي الله موسى –عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- بقومه البحر ونجاهم الله من ظلم فرعون وطغيانه، شعر القوم بمصاعب التغيير الذي لم يألفوه، وعبّروا عن ذلك في نبرة يأس وقنوط: (قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا.. ) ، فشعورهم بعد الاستقرار قد أنساهم فضل ربهم عليهم، وأصابهم بخيبة الأمل.
ولكن نبي الله موسى- عليه السلام- رد عليهم ناصحاً ومبشراً: (قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [الأعراف: 129].
فالتغيير سنة كونية ثابتة، وذهاب الظلم والظالمين قانون إلهي يجرى في الأمم كقانون طلوع الشمس من المشرق.
فالمرحلة الأولى للتمكين هو هلاك العدو وزوال أسباب الفساد والطغيان.
والمرحلة الثانية هي التمكين الفعلي والاستخلاف في الأرض، ولكنها مشروطة بكسر الحاجز النفسي الناتج عن تراكم الظلم، وهو الإحباط والشعور بالفشل واليأس.
لم يتعلم قوم موسى الدرس جيداً ولم يفقهوا سنن الله في الابتلاء والنصر والتمكين..
فما أن واتتهم أول مواجهة مع الظالمين في الأرض المقدسة، ليثبتوا عملياً تخليهم عن الجبن والخوف، إلا وتمكنت منهم الهزيمة النفسية والشعور بالعجز والفشل، بل ولم يكتفوا بالتخاذل العملي بل زادوا عليه بالجرأة على الله ورسوله: (قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) [المائدة: 24].
يقول صاحب الظلال حول هذا الموقف:
“.. وهكذا يحرج الجبناء فيتوقحون; ويفزعون من الخطر أمامهم فيرفسون بأرجلهم كالحمر ولا يقدمون والجبن والتوقح ليسا متناقضين ولا متباعدين; بل إنهما لصنوان في كثير من الأحيان يدفع الجبان إلى الواجب فيجبن فيحرج بأنه ناكل عن الواجب فيسب هذا الواجب; ويتوقح على دعوته التي تكلفه ما لا يريد (فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون) هكذا في وقاحة العاجز الذي لا تكلفه وقاحة اللسان إلا مد اللسان أما النهوض بالواجب فيكلفه وخز السنان (فاذهب أنت وربك) فليس بربهم إذا كانت ربوبيته ستكلفهم القتال إنا ها هنا قاعدون لا نريد ملكاً ولا نريد عزاً ولا نريد أرض الميعاد ودونها لقاء الجبارين.. ”.
الهزيمة النفسية لا تأتي إلا من عاجز، ولا يصرح بها إلا جبان متخاذل..
وقد كان الرد سريعاً والحكم الإلهي قاطعاً حاسماً.. (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) [المائدة: 26] . . فلا خير في جيل مهزوم نفسياً.. أفسده الذل والطغيان.. ينقلب على عقبيه عند أول اختبار فيلعن التغيير ويسب من يدعو إليه، ويبحث عن عجل يعبده، أو طاغية يتذلل إليه، أو فرعون يقدم له قرابين الطاعة.
يحرم هذا الجيل كله شرف النصر والتمكين والعزة، وتحول الراية لجيل آخر لا ينكص عن أداء الواجب ولا يبرر تخاذله بعلو الصوت ووقاحة اللسان..
جيل لا يعرف الجبن واليأس والإحباط. .
جيل يثق بنصر الله وإن لم ير عصا موسى وانشقاق البحر..
جيل يثق بموعود ربه وإن لم تنزل عليه تعاليم السماء..
جيل يعرف واجبه جيداً نحو وطنه وأمته، ولا يخشى عقبات التغيير وتضحياته..
جيل يعرف معنى أن يحيا حراً وإن عاش في الصحراء وحرم طيب العيش..
****
انتهت القصة مع بني إسرائيل..
ولكنها لم تنته معنا بعد..
فقد وعى أصحاب - محمد صلى الله عليه وسلم- الدرس جيداً، ومع الاختبار الأول لأصحاب محمد –صلى الله عليه وسلم- في مواجهة الظالمين يوم بدر خرج فارسهم المقداد بن عمرو قائلاً: (لا نقول لك يا رسول الله ما قاله بنو إسرائيل لنبيهم: فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون لكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا فإننا معكما مقاتلون).
لهذا استحق هذا الجيل النصر والتمكين، لإيمانه بعدالة قضيته، وثقته في ربه، ومزود بيقين رباني منطلق من إيمان راسخ وعمل دؤوب، فأقاموا حضارة لم يشهد العالم لها مثيلاً..
(الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج: 41]
فيا يا عباد الله..
يا أصحاب محمد..
يا من تعلمتم من سيرته وسرتم في طريقه..
رايته اليوم بأيديكم..
والعالم ينتظر الميلاد..
والفارس من جند محمد..
يشرب من يده عند الحوض..
ويجدد أمجاد الأجداد..
ويسطر للدين نشيدًا..
ينشده أحفاد الأحفاد..
فاليوم جهاد..
اليوم جهاد..
الكاتب: حاتم سلامة
المصدر: موقع إسلاميات